في يوم الثلاثاء الأول من نيسان 1941 ، تأزمت الاوضاع بين الوصي الأمير عبد الإله والقادة الأربعة العقداء صلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد ومحمود سلمان وكامل شبيب ، فبادر القادة في مساء نفس اليوم إلى اتخاذ الإجراءات الأمنية اللازمة ، بجعل القطعات العسكرية في حالة إنذار ، وتوجيه مفارز عسكرية من فوج الحراسة للسيطرة على بعض المرافق العامة والجسور وبعض الطرق الرئيسية . وكان دوري في هذه الحملة السيطرة بمفرزة من الجنود على البدالة المركزية للهاتف والسيطرة بمفرزة أخرى على محطة توليد الكهرباء في الصرافية .
وعندما شعر الوصي بهذه التحركات العسكرية ، لجأ قبل بزوغ فجر اليوم التالي إلى المفوضية الأمريكية في بغداد ، التي نقلته إلى معسكر سن الذبان في الحبانية ، ومنها نقلته طائرة عسكرية بريطانية إلى البصرة .
وفي يوم 3 نيسان أصدرت رئاسة أركان الجيش بيانا جاء فيه : انه بناء على ترك الوصي الأمير عبد الإله واجبات الوصاية ، اتخذ الجيش قراراً بإيداع دفة الأمور في البلاد إلى حكومة الدفاع الوطني برئاسة رشيد عالي الكيلاني . وقد شـارك في عضويـة الحكومـة القادة الأربعة العقداء صلاح الدين الصباغ وفهمـي سعيد ومحمود سلمان وكامل شبيب . ثم أصدر رشيد عالي الكيلاني بياناً جاء فيه : انه اتخذ على عاتقه القيام بمهام حكومة الدفاع الوطني ، لصيانة البلاد من العبث في استقرارها ولاستتاب الأمن والنظام فيها ، إلى أن تعود المياه إلى مجاريها ، ويحصل الاطمئنان على تنفيذ أحكام الدستور .
وفي يوم 9 نيسان ، وجه رشيد عالي الكيلاني كتاباً إلى رئيس مجلس النواب ، جاء فيه : بناء على تغيب سمو الأمير عبد الإله وتركه واجبات الوصاية ، تقرر دعوة مجلس الأمة إلى الاجتماع يوم الخميس الموافق 10 نيسان 1941 في الساعة الثانية عشرة زوالية ظهراً ، لتعيين وصي للعرش وفقاً لأحكام الفقرة الثانية من المادة الثانية والعشرين المعدلة من القانون الأساسي فيرجى التفضل بإجراء ما يلزم بهذا الشأن . فتم توجيه الدعوة إلى النواب والأعيان لحضور الاجتماع في جلسة مشتركة .
وفي يوم 10 نيسان في الموعد المقرر ، انعقدت الجلسة المشتركة برئاسة السيد علوان الياسري عضو مجلس الأعيان ، لغياب السيد محمد الصدر رئيس المجلس .
وكنت أتولى قيادة حرس الشرف في حفل تنصيب الوصي الجديد الشريف شرف ، الذي حضر في سيارة يرافقه جلال خالد متصرف بغداد ، وبعد انتخابه وصياً للعرش ، غادر بناية المجلس ، وأدى حرس الشرف التحية له وعزفت الموسيقى السلام الملكي.
وفي صباح يوم 12 نيسان ، توليت قيادة حرس الشرف في حفل استيزار وزارة رشيد عالي الكيلاني ، الذي كلفه الشريف شرف بتشكيل الوزارة . وحضر الكيلاني و وزرائه إلى بناية مجلس الوزراء في سراي الحكومة ( القشلة ) . وبعد إلقائه كلمة بالمناسبة وتلقيه التهاني من الحاضرين في القاعة التي جرى فيها الحفل ، أدى حرس الشرف التحية له ، عند مغادرته المكان مع وزرائه إلى البلاط الملكي ، لتقديم الشكر إلى الوصي الشريف شرف ، كما جرت العادة عند تشكيل الوزارات .
وفي مساء يوم 1 مايس ، توليت مع مفرزة من الجنود ، حماية الاحتفال بعيد ميلاد الملك فيصل الثاني ، في قاعة الملك فيصل الثاني ، التي تم افتتاحها في ذلك اليوم ( قاعة الشعب في باب المعظم حالياً ) . وحضر الاحتفال رئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني والقادة العقداء صلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد ومحمود سلمان وكامل شبيب والوزراء وكبار المسؤولين العسكريين والمدنيين .
وفي مساء يوم 2 مايس ، أذيع من إذاعة بغداد البلاغ العسكري رقم (1) عن الاصطدام المسلح في فجر اليوم نفسه ، بين القوات العسكرية العراقية المرابطة بجوار معسكر سن الذبان والقوات البريطانية الموجودة في المعسكر ، التي قصفت طائراتها القوات العراقية ، بعد أن أنذرتها بوجوب الانسحاب من موقعها المجاور للمعسكر ، ولم تستجب لها قيادة القوات العراقية .
وبعد إذاعة البلاغ العسكري ، ألقيت في الإذاعة الحديث المكلف مسبقاً بإلقائه من قبل الشعبة الثالثة بوزارة الدفاع ، المنطوي على تمجيد الجندية والاعراب عن ابتهاج الجيش بعيد ميلاد الملك فيصل الثاني وحبه والولاء المطلق له . لكن الوقائع التي حصلت في فجر ذلك اليوم ، جعلتني أضيف جانباً آخر على حديثي المقرر، لمهاجمة العدوان البريطاني واستنكاره ، مع التنديد بالمتعاونين مع المعتدين .
وفي يوم 23 مايس ، صاحبت ومعي مفرزة من الجنود قافلة من 15 سيارة محملة أسلحة وعتاد ومواد أخرى ، متوجهة إلى القوات العراقية المرابطة في الرمادي ، بقيادة العقيد سعيد يحيى . وقد سلكت القافلة في الذهاب والعودة ليلاً طريقاً ترابياً بدلالة دليل ، تجنباً للطريق الاعتيادي المار بالفلوجة الذي أصبح تحت سيطرة القوات البريطانية بعد احتلال الفلوجة . وكان ضابط شرطة الكاظمية سلطان أمين ( وكيل وزارة الداخلية فيما بعد ) قد هيأ الدليل للقافلة .
وفي يومين آخرين متفاوتين خلال شهر مايس ، توليت مهام ضابط خفر الحرس الملكي في قصر الزهور . حيث كنا ضباط فوج الحراسة نتناوب القيام بهذه المهمة ، بعد أن أصبح فوج الحراسة يتولى مهام الحرس الملكي الذي تم استبعاده ، وأصبح آمر فوج الحراسة المقدم صالح زكي الطائي المعروف بصداقته للقادة الاربعة ، يتولى مهام آمر الحرس الملكي إلى جانب كونه آمر فوج الحراسة . وخلال اليومين المذكورين ، أتيح لي مشاهدة الملك فيصل الثاني يتجول في حديقة القصر مع مرافقه المقدم عبد الوهاب عبد اللطيف . وكانت التعليمات تقضي بعدم خروج الملك ووالدته الملكة عاليه من القصر ، وكذلك عدم خروج مرافقه المقدم عبد الوهاب عبد اللطيف من القصر ، مع السماح له بالخروج على أن لا يعود إلى القصر .
وفي يوم 28 مايس ، عند اقتراب القوات البريطانية من بغداد ، تم تسفير الملك ووالدته الملكة عاليه ، بالقطار إلى كركوك ثم بالسيارة إلى أربيل ، حيث أعد لاقامتهما قصر في قرية بداوة المجاورة لمدينة أربيل ، يملكه ( ملا أفندي ) الشخصية الدينية المتنفذة في تلك المنطقة والد عز الدين الملا الوزير السابق . وكان تسفير الملك ووالدته الملكة ، قد تم لوجود فكرة – لم تتحقق – بانتقال الحكومة إلى المنطقة الشمالية ، لمواصلة المقاومة من هناك . وقد تمت عودة الملك فيصل الثاني ووالدته الملكة عاليه إلى بغداد ، بعد عودة الوصي الأمير عبد الإله إلى بغداد في اليوم الأول من حزيران .
كـذلك فـي يـوم 28 مايـس ، تشكلـت ( لجنـة الأمـن الداخلـي ) برئاسـة أميــن العاصمة أرشد العمري وعضوية متصرف بغداد خالد الزهاوي ومدير الشرطة العام حسام الدين جمعة والعميد الركن حميد نصرت ، لتولي المحافظة على الأمن ، في حالة انسحاب الحكومة والقيادة من بغداد ، وذلك بطلب من رئاسة أركان الجيش وموافقة رئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني ، ولكن في مساء يوم 29 مايس ، غادر بغداد إلى إيران بطريق خانقين رشيد عالي الكيلاني والشريف شرف والقادة الاربعة والمفتي أمين الحسيني . وفي يوم 31 مايس ، عند وصول القوات البريطانية إلى جوار بغداد ، بادرت لجنة الأمن الداخلي إلى عقد هدنة مع قائد القوات البريطانية الزاحفة ، بواسطة السفارة البريطانية وسفيرها السر كنهان كورنواليس . وتم الاتفاق على عدم دخول القوات البريطانية الى العاصمة بغداد ، فبقيت في مواقعها خارج بغداد وضواحيه ، ثم انسحبت بعض قطعاتها الى معسكر سن الذبان وبقية القطعات الى الأردن .
وفي اليوم الأول من حزيران ، عمت الفوضى معظم أنحاء بغداد ، وبدأت عمليات السلب والنهب ، مما استدعى إعلان منع التجول ، وتولى العقيد نور الدين محمود مدير الحركات بوزارة الدفاع مسؤولية قمع الفوضى ، واستخدام قوات فوج الحراسة لهذا الغرض . وكانت المهمة التي تم تكليفي بها مع مفرزة من الجنود ، قمع عمليات العدوان والسلب والنهب في شارع الرشيد وما جاوره ضمن المنطقة الكائنة بين باب المعظم وساحة معروف الرصافي . كما تم تكليف ضباط آخرين للقيام بمثل هذه المهمة في المناطق الأخرى من بغداد ، حتى تم القضاء على حالة الفوضى وما جرى خلالها من أفعال عدوانية ، خلال اليوم التالي .
وفي نفس اليوم عاد الوصي الأمير عبد الإله إلى بغداد . وبدأت الإجراءات ضد الضباط الذين ساهموا بفاعلية في ثورة مايس ، وكنت من ضمنهم ، غير أنه بفضل جميل المدفعي رئيس الوزراء الذي كانت له صلة طيبة بوالدي ، اكتفي بنقلي من فوج الحراسة إلى وحدات منطقة الموصل . كما أنه كان لجميل المدفعي فضلاً في حماية الكثيرين من الضباط والوطنيين المخلصين الآخرين .
وخير من وصف جميل المدفعي بحق هو المؤرخ الأول في العراق عبد الرزاق الحسني في الجزء السادس من كتابه الوزارات العراقية في الصفحة الرابعة التي جاء فيها : ” اجمع الباحثون في تاريخ العراق الحديث ، على إن جميلاً المدفعي كان من أنبل الشخصيات العراقية وأبعدها عن الأنانية والحزبية ، وقد دلت الحوادث المختلفة على إن جميلاً المدفعي لا يدعى إلى الحكم إلا بعد أزمات شديدة وظروف خاصة تستدعي دخوله لإنقاذ الموقف أو تسكين الأفكار” . وهذا ما دعى الأمير عبد الإله ، حال عودته إلى بغداد وبعد مشاورات دقيقة ، استقر الرأي فيها على أن يعهد إلى جميل المدفعي بتشكيل الوزارة الجديدة .
إحالتي للتقاعد من الجيش
في أوائل عام 1944 ، عندما أشرفت الحرب العالمية الثانية على نهايتها بانتصار بريطانيا وحلفائها ، اشتدت الهيمنة البريطانية على مقدرات العراق ، وشرع نوري السعيد رئيس الوزراء ووزير الدفاع ، بإقصاء وجبة جديدة من ضباط الجيش ذوي الأنشطة الوطنية ، وكنت من ضمنهم ، إذ تمت إحالتي للتقاعد في 27/2/1944 بناء على توصية اللجنة المكلفة باختيار الضباط الذي يجب إقصاؤهم ، بعد إطلاعها في إضبارتي الشخصية على حديثي الذي هاجمت فيه العدوان البريطاني من إذاعة بغداد في يوم 2 مايس 1941 . حيث كانت السفارة البريطانية قد سجلت الحديث عند إذاعته بجهاز تسجيل ، ضمن كل ما أذيع خلال شهر مايس 1941 ، وأرسلت مضمون ذلك الحديث إلى وزارة الدفاع في حينه ، فأودعته الوزارة في إضبارتي الشخصية .