بعد إحالتي للتقاعد من الجيش ، كان يجب أن أبحث عن عمل ، فتوجهت إلى أربيل ، حيث كان شقيقي الدكتور هاشم طبيباً هناك . وقابلت المتصرف سعيد قزاز ذو الصلة الطيبة بخالي عبد المجيد اليعقوبي ، فكانت مبادرة كريمة منه تعييني مدقق بلديات أربيل ، مع علمه بأن نوري السعيد أحالني للتقاعد لإسهامي بثورة مايس. فقضيت بهذه الوظيفة ثلاث سنوات ، خلال السنة الأخيرة حصلت على شهادة الدراسة الثانوية بتفوق كطالب خارجي ، مما أتاح لي الحصول على القبول في كلية الحقوق ، والحصول أيضاً على وظيفة مدقق في مديرية النفوس العامة في بغداد . كل ذلك تم وفق خطة مدروسة . لتصميمي على الدراسة في كلية الحقوق ، وبعد أن اكتمل الإعداد لها ، قدمت استقالتي من وظيفتي في أربيل وانتقلت إلى بغداد للمباشرة بوظيفتي الجديدة ، والشروع بالدراسة التي تطلعت اليها في القسم المسائي بكلية الحقوق .
في كلية الحقوق
الدراسة في كلية الحقوق كانت بمستوى علمي رفيع ، وتجري بانتظام ، بفضل الإدارة الحازمة لعميد الكلية الأستاذ منير القاضي إلى جانب تدريسه ” مجلة الأحكام العدلية ” ، وكذلك بفضل النخبة الممتازة من الأساتذة منهم الدكاترة : حسن علي ذنون وأحمد محمد خليفة وجابر جاد وعبد الرحمن الجليلي ومصطفى كامل المصري ومصطفى كامل ياسين وصلاح الدين الناهي وأحمد عزت القيسي ، والأساتذة : عبد الرحمن البزاز وحسين علي الأعظمي وشاكر ناصر وعبد الجبار التكرلي وحمدي الأعظمي وداود سمرة وعبد الرحمن خضر. واذكر من زملائي في الكلية صديقي الدكتور أكرم فاضل وخمسة من أصدقائي الضباط الذين كانوا يواصلون دراستهم معي في القسم المسائي بالكلية ، وهم خالد النقشبندي ( عضو مجلس السيادة ) وعبد العزيز العقيلي (اللواء الركن) وأحمد صالح العبدي (اللواء الركن) وحسين فرحان (العقيد) وشاكر القره غولي (النقيب المتقاعد) .
وفي أول حزيران 1951 تخرجت في الكلية حائزاً على الليسانس في الحقوق (البكالوريوس في القانون ) بدرجة جيد جداً وبمرتبة الثالث بين خريجي الكلية في تلك السنة وعددهم 465 طالباً و23 طالبة ، بالرغم من عدم تفرغي للدراسة وانشغالي إلى جانبها بأداء مهام وظيفتي في مديرية النفوس العامة ، دون أي انقطاع عن أداء كلتا المهمتين .
وقد وصفني وأنا طالب في الكلية الدكتور أكرم فاضل ، في مقالة نشرتها مجلة قرندل بعددها الصادر في 24/2/1957 بعد ست سنوات من تخرجنا في الكلية ، جاء فيها : ” تربطني بالأستاذ أكرم نشأت إبراهيم روابط صداقة وثيقة نمت وترعرعت في كلية الحقوق ببغداد، وتغلغلت جذورها عميقاً في نفسينا على مدى الأيام . وتفصيل الخبر أنني تعرفت عليه في السنة الثانية في الحقوق ، بواسطة أحد الأصدقاء ، فشعرت منذ اليوم الأول إن الرجل سيكون صاحبي إلى الأبد ، وأنني متفاهم معه على أمور كثيرة قبل أن اراه بأجيال ! في ضمير الغيب ؟.
وكانت ومازالت له صفات كثيرة نادرة تلفت الانتباه منها أنه دريس مجتهد منقطع النظير ، فهو يبدأ دراسته منذ مطلع السنة الدراسية ، بل قبل ذلك ، أي في العطلة ، فلا يكاد يدنو الامتحان النهائي ، حتى يكون الطالب أكرم نشأت قد هضم المادة وتمثلها وأصبحت جزءاً من تفكيره ، تشع في كل وقت وتتوهج ، ولذلك كنت تجد الطلاب مجتهدهم وكسولهم ، يحفون به مساءلين عن مسائل كثيرة استعصت على فهمهم ، لأنهم لم يدرسوها دراسته لها ، فيجيبهم الإجابة الصحيحة من فوره ، دون تلكؤ أو تباطؤ أو توهم أو تلجلج . وأن أنسى لا أنسى أنني دخلت معه الامتحان الشفهي في إحدى المواد ، وكان الأستاذ الفاحص شديد الوطأة على الطلاب ، نظراً لشحه في منح الدرجات ، ولكن ما أن وجه إلينا السؤال الأول ، حتى ارتعدت فرائصنا ، وأجاب كل منا على نقطة واحدة ، وبقيت نقطة واحدة هي قلب السؤال ، فظللنا ساكتين ينظر بعضا في وجه بعض ، إلا أن أكرم نشأت وحده أجاب صحيحاً على النقطة المجهولة ، فما كان من الأستاذ المشافه إلا أن طلب من أكرم أن يتفضل بمغادرة القاعة ، قناعة من الأستاذ بمقدرة تلميذه المتفوق .
وكان يقوم بتلخيص كافة الكتب المدرسية بصورة متقنة فيستفيد منها الطلاب . فهو بهذه المثابة يشبه الأستاذ جان شابرا الفرنسي ، الذي لخص فروع المعارف القانونية لطلاب الليسانس ، ونشرها في كتب صغيرة تحت عنوان ” عون الذاكرة ” .
ومن صفات الطلاب المجتهدين أن تتقمصهم الخيلاء والأنانية ، وبخلاف ذلك كان أكرم نشأت فقد كان وما برح متواضعاً لا يتحذلق ولا يتشحح في معونة يستطيع إسداءها إلى أحد ، فهو في العطل الدراسية طوع إشارة أي صديق أو شبه صديق يلتمسه مد يد العون في شرح بعض الغوامض بل في إعادة المناهج بأسرها أحياناً عليه ، فيسرع صاحبنا ملبياً النداء دون أن تبدو عليه بادية تكلف أو تثاقل ، فتراه في دار المطلوب تدريسه أو في داره ، مشمراً عن ذراعيه – ولا أقول مشمراً عن ذراعيه مجازاً لأنه كان يشمر عن ذراعيه حقيقة – ليستطيع الكلام والحركة بسهولة ، ويقضي في هذه الحالة المرهقة ساعات طويلة من الضحى إلى العصر أياما عديدة في جو لاهب من أيام القيض الهارسة .
ومن صفات أكرم نشأت أيضاً ، دراسته نفسيات من يصادقهم من البشر ، فتراه يمعن النظر ، ويعمل التفكير فيهم ، ثم يبتسم حين يكشف بعض طواياهم ، ويعلم في أي حقل من حقول المعرفة يستطيع فلان أن ينفع ، فيتعهده بالمودة وينفحه بالصداقة الكافية . لذلك ما شككت يوماً في أنه سيصبح معنياً بعلم النفس – لاستعداده الفطري له- وتشاء الظروف أو يشاء اكرم نشأت لها – حيث انه يتحكم في أغلب الأحيان في ظروفه – أن توفده وزارة المعارف في بعثتها العلمية إلى مصر ، لدراسة علم النفس والعلوم الجنائية ، وأن يؤلف لطلابه ولطلبة الثقافة العامة الصميمة كتابه القيم علم النفس الجنائي .”
فـي المحاماة والصحافـة
بعد تخرجي في كلية الحقوق قدمت استقالتي من وظيفتي في مديرية النفوس العامة ، وانتميت إلى نقابة المحامين في 19/7/1951 وبدأت أمارس المحاماة .
وبعد فترة قصيرة قدمت طلباً إلى وزارة المعارف للالتحاق بالبعثة العلمية للتخصص بالعلوم الجنائية ، ولاستيفائي الشروط المطلوبة ونجاحي في المقابلة التي أجرتها لجنة البعثات ، تقرر اختياري لعضوية البعثة . ولكن عند عرض أسماء الذين تم اختيارهم لعضوية البعثة على خليل كنه وزير المعارف ، شطب على أسمي وأحل مكانه اسم طالب لم يكن ضمن المرشحين لعضوية البعثة ، لكوني من ضباط ثورة مايس ( كما أخبر الوزير بذلك وسيط الطالب الآخر ) . فأثار هذا الإجراء الجائر ألماً في نفسي ، ضاعف من ألمي الذي سبق أن سببه إحالتي للتقاعد من الجيش . فعزمت على إيجاد وسيلة للتنفيس عما تراكم في نفسي من آلام ، وذلك بإصدار جريدة أرد فيها بمقالاتي على صاع الجائرين بصاعين ، فقدمت طلباً إلى وزارة الداخلية لمنحي الموافقة على إصدار جريدة باسم “الحقائق” فكان مصير طلبي الرفض ، لنفس السبب الذي أدى إلى إحالتي للتقاعد وشطب اسمي من عضوية البعثة . فلجأت إلى وسيلة أخرى حققت بها أمنيتي ، بأن اتفقت مع هاشم نوري صاحب جريدة “الحصون” اليومية ، على قيامي برئاسة تحرير الجريدة ، دون تدخله في شؤون التحرير وانفراده بالحصول على موارد الجريدة ، وهذا هو الذي كان يهم هاشم نوري ، في حين كنت مكتفياً بموردي من ممارسة المحاماة .
وفي يوم 24/1/1952 صدر العدد 703 من الجريدة ، وفي أعلى صفحتها الأولى ظهر اسمي بوصفي مديرها المسؤول ورئيس تحريرها . وكانت مقالتي الأولى في هذا العدد ، بعنوان “مساومات ومفاوضات” جاء فيها ” يروق لفخامة السيد نوري السعيد ، مسك الخيوط الرئيسية لسياسة المملكة العامة ، وتحريكها على هوى الأنغام التي يعزفها حواريوه المدللون ، فيحل ويشد وفق دقات الطبول ونفخ المزامير . ومن الخيوط المفضلة لدى فخامة السعيد ، التي يحلو له العبث بها أكثر من سواها ، تلك التي تتصل بمجلسي الوزراء والنواب ، لما فيهما من كراسي كثيرة وخيرات وفيرة . ومما يدلنا على ذلك تلك الإشاعات التي ينشرها أنصار فخامته يوماً بعد يوم ، هنا وهناك حول إجراء التعديلات والتبديلات الوزارية وحل مجلس النواب ، إشاعات تناقض بعضها بعضاً ، فتهيئ جواً طيباً للمساومات والمفاوضات ، في الصالونات المعطرة وراء الكواليس لبعث الوزراء وخلق النواب . وقد فات القائمين ، أو بالأحرى القائم بتلك المفاوضات والمساومات ، بأن الوعي الشعبي واليقظة الفكرية وانتشار الثقافة ، أمور جعلت من الصعب خدع الناس وتمويه الحقائق ، وتغطية الخذلان بغشاء رقيق من البطولات المهلهلة ، وسبك ما يناقض الدستور في رداء شكلي من نصوص الدستور لحكومة ديمقراطية نيابية . فقد مج الناس الطريقة القديمة التي اعتادها المخرج القديم في إخراج فصوله المتكررة” .
و” شركـات الاستغفـال والاستغلال ” كان عنوان مقالتي الأخيرة التي كتبتها فـي
1/6/1952 بالعدد 812 جاء فيها ” في الوقت الذي تنعم فيه شركات النفط في العراق بحصة الأسد من خيرات هذه البلاد ، بفضل الاتفاقات السعيدية التي صفق لها فخامة السعيد وأنصاره ممن كان نصيبهم الباقي من تلك الخيرات . في هذا الوقت بالذات يجد العامل العراقي نفسه في شركات الاستغفال والاستغلال ، ذليلاً مهاناً بائس الحال ، تعجز الأجور التافهة التي يتقاضاها عن تأمين احتياجاته الضرورية لإدامة الحياة . فالعامل المسكين الذي يقضي عشر ساعات يومياً – رغم إن ساعات العمل ثمانية طبقاً لما يقضي به قانون العمل – في عمل مضني شاق تحت أشعة الشمس المحرقة أو في أتون المكائن المستعرة ، تحت إمرة نفر من غلاظ الأكباد والقلوب ، يظنون أنفسهم أسياداً ويحسبون الآخرين عبيداً . هذا العامل يتقاضى ما لا يزيد على الربع دينار يومياً ، تقطع عنه في معظم أيام العطل كبعض الأعياد والمناسبات الإسلامية المباركة التي لا تعترف بها الشركات الأجنبية الطاغية . وإذا أبدى العامل ما يوحي باستيائه إلى الحاكمين بأمرهم في حقول النفط ، كان نصيبه الطرد الشنيع .
يتم هذا كله بينما تنفخ هذه الشركات جيوب موظفيها الأجانب ، بأكداس مكدسة من الدنانير ، مقابل أعمال بسيطة مريحة ، ينجزونها في أجواء ملطفة ، وهم رافلون في ثيابهم الأنيقة ، إلى جوار قناني الويسكي ووسائل الترفيه ؟.”
وكان نشر هذه المقالة في اليوم الأول من حزيران 1952 سبباً في إيقاف الجريدة عن الصدور . وفي اليوم الأول من حزيران 1972 أعلن العراق قراره بتأميم النفط ، فكان تنبؤي الثاني الذي تحقق . وقد أعيد نشر المقالة في جريدة الثورة بعددها 1354 في 24/12/1972 بعنوان أمنية تحققت بعد عشرين عاماً .
ولم يكن إيقاف الجريدة عن الصدور بقرار من حكومة نوري السعيد كما أشيع في حينه ، وإنما كان إيقاف صدورها لعدم كفاية مواردها لسد نفقات إصدارها ، كما زعم ذلك وفاجأني به هاشم نوري صاحب الجريدة والمتصرف بشؤونها المالية . في حين كانت موارد الجريدة تزيد كثيراً على نفقات إصدارها، لرواجها ونفاذ جميع نسخها ، لإقبال القراء عليها ، حرصاً منهم على متابعة مقالاتي الحادة والساخرة أحياناً والتي لا ترحم دوماً . ولا سر فيما حدث إزاء ما لدى شركة النفط من أساليب وإمكانات ؟.
وخلال رئاستي لتحرير جريدة الحصون اليومية السياسية ، لمدة أربعة أشهر وأسبوع (24/1-1/6/1952 ) حررت (75) مقالة انصبت على عرض الأوضاع السائدة في العراق وبعض الدول العربية ، تمثل صوراً قلمية لتلك الأوضاع دون رتوش . وقد جمعت تلك المقالات في كتاب بعنوان ” للحقيقة والتاريخ” أصدرته في عام 1962 في بغداد .
وبعد توقف جريدة الحصون عن الصدور ، تفرغت للمحاماة التي كنت قبل ذلك أمارسها إلى جانب عملي في الجريدة . وخلال ممارستي المحاماة كنت اشعر بمتعة في دراسة ومتابعة القضايا التي التزم بالدفاع فيها ولم التزم بالدفاع في قضية ، ما لم اقتنع ببراءة المتهم في القضايا الجزائية ، وبحق المدعي فيما يدعيه في القضايا المدنية . لذلك كان النجاح يصاحب القضايا التي التزمت بالدفاع فيها . كما لمست بحق كفاءة ونزاهة القضاة . وعدم خضوعهم للضغوط مهما كانت مصادرها ، هذا في القضاء العادي الجزائي والمدني ، وليس في القضاء العسكري العرفي .
في جامعة القاهرة للاختصاص بالعلوم الجنائية
تفرغي لممارسة المحاماة التي أحببتها ، لم تطل أكثر من بضعة أشهر بعد توقف جريدة الحصون عن الصدور إذ بادرت إلى تقديم طلب للالتحاق بالبعثة العلمية للتخصص بالعلوم الجنائية . حيث كانت وزارة المعارف أعلنت عن قبول طلبات الالتحاق بالبعثة للسنة الجديدة . كما كانت الوزارة السعيدية قد استقالت ، وحلت محلها وزارة برئاسة مصطفى العمري ، وحل محل خليل كنه في وزارة المعارف عبد الله الدملوجي الذي سبق أن أشغل وزارة الخارجية والمعروف عنه عدم التدخل في الإجراءات الأصولية للإدارات المختصة بوزارته . ولاستيفائي للشروط المطلوبة ونجاحي في المقابلة التي أجرتها لجنة البعثات ، تقرر إيفادي بالبعثة للتخصص في العلوم الجنائية بمعهد الدراسات العليا للعلوم الجنائية في كلية الحقوق بجامعة القاهرة .

الدكتور اكرم نشات مع النقيب (اللواء) لبيب بدوي ضابط شرطة الاهرام زميله في معهد الدراسات العليا للعلوم الجنائية أمام هرم خوفو وأبو الهول – 1953
وعند وصولي إلى القاهرة ، كان الدكتور بديع شريف المستشار الثقافي بالسفارة العراقية ، قد أنجز الإجراءات اللازمة لقبولي في المعهد المذكور .
فباشرت بالدراسة في 1/10/1952 ، التي استمرت سنتين دراسيتين ، درست خلالها : القانون الجنائي بتعمق ، وفقه الإجراءات الجنائية وعلم النفس الجنائي وعلم الاجتماع الجنائي وعلم العقاب وعلم التحقيق الجنائي العملي والفني وعلم الإجرام والطب العدلي ، وقمت بإعداد بحث عن ” سلطة التفتيش الجنائي في القانون المقارن ” ، جرت مناقشته في نهاية السنة الثانية .
وفي القاهرة أتيح لي التفرغ للدراسة وحدها ، دون تحمل أعباء أخرى . وكان راتبي الشهري المخصص لي كطالب بعثة ، ثلاثين جنيها يغطي احتياجاتي ، ويعد آنذاك مبلغاً سخياً . حيث كان راتب رئيس الجمهورية خمسمائة جنيه ، تنازل محمد نجيب عن نصفها . وكانت إقامتي خلال السنة الأولى في ( بنسيون) في حي الزمالك قرب بناية السفارة العراقية ومسكن السفير نجيب الراوي . وكان يقيم في الزمالك أيضاً عبد الحق فاضل المستشار بالسفارة الذي ترجم رباعيات الخيام وشقيق صديقي الحميم الدكتور أكرم فاضل ، وكنت التقي معه بين حين وآخر . وفي السنة الثانية انتقلت إلى عوامة صغيرة في النيل بالجيزة ، مجاورة لعوامة كان يقيم فيها أصدقائي الطلاب العراقيين علي حسين الخلف وعباس الصراف ومهدي المخزومي ( الدكاترة فيما بعد ) وكنت التقي معهم باستمرار .
وبعد اجتيازي امتحان المواد الدراسية التي تلقيتها في السنة الثانية بتفوق ، وإجازة بحثي عن ” سلطة التفتيش الجنائي في القانون المقارن ” بامتياز ، تم منحي دبلوم الدراسات العليا في العلوم الجنائية بتقدير ممتاز المعادل لدرجة الماجستير . وبلغ المستشار الثقافي الدكتور بديع شريف هذه النتيجة إلى وزارة المعارف بكتابه المرقم 1046 والمؤرخ 11/7/1954 . وذلك إلى جانب شهادتين احتفظ بهما ببالغ الاعتزاز ، تنطويان على تقييم لشخصي ومؤهلاتي العلمية من أستاذين جليلين هما الأستاذ محمد فتحي الرائد العربي الأول لعلم النفس الجنائي والأستاذ محمد عبد الله الفقيه القانوني الكبير ومؤلف كتاب “حرية الفكر وجرائم النشر” الذي يعد من أهم وابرز المؤلفات القانونية .
فقد جاء في شهادة الأستاذ محمد فتحي : ” اشكر الفرصة الثمينة التي أتاحت لي أن أبدي رأيي في الأستاذ أكرم نشأت الطالب بمعهد الدراسات العليا للعلوم الجنائية في جامعة القاهرة ، بوصفي أستاذاً لمادة علم النفس الجنائي التي أتشرف بتدريسها لطلبة السنتين الأولى والثانية بالمعهد المذكور ، فقد آنست في الأستاذ نشأت تفوقاً ملحوظاً في دراسة هذه المادة المعقدة خلال عامي الدراسة ، مما يشهد له بالذكاء والنبوغ . وكان الأستاذ نشأت موضع إعجابي وتقديري لكفايته من الناحيتين العلمية والأخلاقية ، حتى أنني أواجه زميلاً لي لا مجرد طالب . وكثيراً ما كنت أحثه على متابعة الدراسة والاستمرار في تحصيل العلم بعد تخرجه من المعهد ، لأنني قوي الإيمان بأنه سيكون له مستقبل لامع في البحوث العلمية والاجتماعية وخاصة في ميدان مكافحة الجريمة” .
وجاء في شهادة الأستاذ محمد عبد الله : ” كان الأستاذ أكرم نشأت إبراهيم من طلابي في مادة القانون الجنائي مع التعمق بالسنة الأولى 1952-1953 ومن طلابي في مادة علم العقاب بالسنة الثانية 1952-1954 في معهد الدراسات العليا للعلوم الجنائية . وأنني لاهنئ العراق بهذا الشاب النابه الذي جمع بين المثابرة والذكاء وهما خلتان قلما تجتمعان في الشرق . وأرجو أن يعرف ذووه مزاياه وأن يعينوه مشكورين على تحقيق مراده في الحصول على الدكتوراه في الفرع الذي تخصص فيه ، ولهم في إرادته القوية التي لم تفلت هدفها قط فيما اعلم ، وفق نظرته الجادة إلى الواجب وحرصه البالغ على حسن أدائه وعلى تشريف نفسه ووطنه بالتفوق في القيام به ، ضمان لما يضعونه فيه من أمل وثقة .